سورة الحج - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الحج)


        


يقول الحقّ جلّ جلاله: {ومن الناس من يُجادل في الله} أي: في شأنه، فيصفه بغير ما هو أهله، وهو أبو جهل، كما قال ابن عباس رضي الله عنه، وقيل: هو من يتصدى لإضلال الناس، كائنًا من كان. حال كونه {بغير علم}، بل بجهل وهوىً. والمراد بالعلم: الضروري، كما أن المراد بالهدى في قوله: {ولا هُدىً}: هو الاستدلال والنظر الصحيح، الهادي إلى المعرفة. {ولا كتابٍ منير} أي: وحي يستند إليه، والحجة إنما تقوم بأحد هذه الثلاثة، أي: يجادل في شأنه تعالى، من غير تمسك بمقدمة ضرورية، ولا بحجة نظرية، ولا برهان سمعي.
حال كونه {ثانِيَ عِطْفِه} أي: لاويًا عُنُقَهُ عن طاعة الله؛ كبرًا وعُتوًا، أو عاطفًا بجانبه، وطاويًا كَشْحَهُ، معرضًا متكبرًا، فثنْي العطف كناية عن التكبر. وقرأ الحسن بفتح العين، أي: مانعًا تعطفه على المساكين؛ قسوةً. فعل ذلك الجدال {ليضلَّ عن سبيل الله} أي: ليضل الناس عن سبيل الله؛ فإنَّ غرضه بالمجادلة إضلال المؤمنين، أو جميع الناس، وقرأ المكي وأبو عمر: بفتح الياء، أي: ليصير ضالاً عن سبيل الله. وجعل ضلاله غاية لجداله، من حيث إن المراد به الضلال المبين، الذي لا هداية بعده، مع تمكنه منها قبل ذلك، أي: ليرسخ في الضلالة أيّ رسوخ، {له في الدنيا خِزيٌ}: هوان وذُل، وهو القتل يوم بدر، وهو بيانُ نتيجةِ ما سلكه من الطريقة، أي: يثبت له، بسبب ما فعل، خزي وصغار، وهو ما أصابه ببدر، {ونُذِيقه يومَ القيامة عذابَ الحريق} أي: النار المحرقة.
{ذلك} أي: ما ذكر من العذاب الدنيوي والأخروي. وما في الإشارة من البُعد؛ للإيذان بكونه في الغاية القاصية من الهول والفظاعة، أي: ذلك العذاب الهائل {بما قدمتْ يداك} أي: بسبب ما اقترفْتَهُ من الكفر والمعاصي. وإسناده إلى يديه؛ لأن الاكتساب في الغالب بهما. والالتفات؛ لتأكيد الوعيد وتشديد التهديد. أو يقال له يوم القيامة: {ذلك بما قدمت يداك وأنَّ الله ليس بظلام للعبيد}، فلا يأخذ أحدًا بغير ذنب ولا بذنب غيره. وهو خبر عن مضمر، أي: والأمر أنَّ الله ليس بمعذبٍ لعبيده بغير ذنب، وأما عطفه على {بما} فغير سديد، ولفظ المبالغة؛ لاقترانه بلفظ الجمع في العبيد، ولأن قليل الظلم منه، مع علمه بقبحه واستغنائه عنه، كالكثير منا. قاله النسفي.
وقِيل: {ظلام}: بمعنى: ذي ظلم، فتكون الصيغة للنَّسَبِ. والتعبير عن ذلك بنفي الظلم، مع أن تعذيبهم بغير ذنب، ليس بظلم قطعًا، على ما تقرر في مذهب أهل السنة، فضلاً عن كونه ظلمًا بالغًا؛ لأن الحق تعالى إنما يُظهر لنا كمال العدل، وغاية التنزيه، وإن كان في نفس الأمر جائز أن يعذب عباده بلا ذنب، ولا يسمى ظلمًا؛ لأنه تصرف في ملكه، لكنه تعالى لم يظهر لنا في عالم الشهادة إلا كمال العدل. والله تعالى أعلم.
الإشارة: من يخاصم في طريق القوم، وينفيها عن أهلها، إما أن يكون تقليدًا، وهو ما تقدم، أو يكون تكبرًا وعتوًا، بحيث لم يرض أن يحط رأسه لهم، وهو ما أشير إليه هنا. ولا شك أن المتكبر لا بد أن يلحقه ذل، ولو عند الموت. ويوم القيامة يُحشر صاغرًا كالذر، كما في الحديث. والله تعالى أعلم.


قلت: {لَمَن ضره}: قال ابن عطية: جرى فيه إشكال؛ وهو دخول اللام على مَنْ، وهو في الظاهر مفعول، واللام لا تدخل على المفعول. وأجيب بثلاثة أوجه؛ أحدها: أن اللام متقدمة على موضعها، والأصل أن يقال: يدعو مَنْ لَضَرُّهُ أقرب، فموضعها الدخول على المبتدأ، وثانيها: أنَّ {يدعوا} تأكيد ليدعو الأول، وتم الكلام عنده، ثم ابتدأ قوله: {لَمَن ضره}، فمن مبتدأ، وخبره: {لبئس المولى}- قلت-: وإياه اعتمد الهبطي في وقفه، وثالثها: أن معنى {يدعو}: يقول يوم القيامة هذا الكلام، إذا رأى مضرة الأصنام، فدخلت اللام على مبتدأ في أول الكلام. اهـ.
قلت والأقرب ما قاله الزجاج، وهو: أن مفعول {يدعو} محذوف، ويكون ضميرًا يعود على الضلال، وجملة: {يدعو}: حال، والمعنى: ذلك هو الضلال البعيد يدعوه، أي: حال كونه مدعوًا له، ويكون قوله: {لمن ضره} مستأنفًا مبتدأ، خبره: {لبئس المولى}. نقله المحشي. وحكم المحلي بزيادة اللام.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {ومن الناس من يعبد الله على حَرْفٍ} أي: على طرف من الدين لا ثبات له فيه، كالذي ينحرف إلى طرف الجيش، فإن أحس بظفر قرَّ، وإلا فر. وفي البخاري عن ابن عباس: «كان الرجل يَقدمُ المدينة، فإن ولدت امرأتُهُ غلامًا ونُتجَتْ خَيْلُه، قال: هذا دينٌ صالح، وإن لم تَلِد امرأته، ولم تنتج خيلُه، قال: هذا الدين سُوء». وكأن الحق تعالى سلك في الآية مسلك التدلي، بدأ بالكافر المصمم، يجادل جدالاً مجملاً، يتبع فيه كل شيطان مريد. والثاني: مقلد مجادل، من غير دليل ولا برهان، والثالث: كافر أسلم إسلامًا ضعيفًا. ثم قابل الأقسام الثلاثة بضدهم، بقوله: {إن الله يدخل الذين آمنوا...} الآية.
ثم كمَّل حال المذبذب بقوله: {فإِن أصابه خيرٌ} أي: دنيوي؛ من الصحة في البدن، والسعة في المعيشة، {اطمأن به} أي: ثبت على ما كان عليه ظاهرًا، لا أنه اطمأن به اطمئنان المؤمنين، الذين لا يلويهم عنه صارف، ولا يثنيهم عنه عاطف. {وإِن أصابته فتنةٌ}: بلاء في جسده، وضيق في معيشته، أو شيء يفتتن به، من مكروه يعتريه في بدنه أو أهله أو ماله، {انقلب على وجهه} أي: ارتد ورجع إلى الكفر، كأنه تنكس بوجهه إلى أسفل. أو انقلب على جهته التي كان عليها. وتقدم عن ابن عباس أنها نزلت في أعاريب قدموا المدينة، مهاجرين، فكان أحدهم إذا صحَّ بدنه ونتجَتْ فَرَسُه مُهْرًا سريًا، وولدت امرأته غلامًا سويًا، وكَثُرَ مالُه وماشيته، قال: ما أصبتُ، مذ دخلت في ديني هذا، إلا خيرًا، واطمأن، وإن كان الأمر خلافه، قال: ما أصبتُ إلا شرًّا، وانقلب عن دينه. وعن أبي سعيد رضي الله عنه: أَنَّ يهُوديًا أَسْلَمَ فَأَصابَتْهُ مَصَائبُ، وتَشَاءَمَ بالإِسْلامِ، فَأَتَى النَّبي صلى الله عليه وسلم فَقَال: أَقِلْنِي، فقال: «إنَّ الإسْلاَمَ لا يُقالُ» فَنَزلت.
{خَسِرَ الدنيا والآخرة}: فَقَدَهُما، وضيعهما؛ بذهاب عصمته، وحبوط عمله بالارتداد. وقرأ يعقوب: خاسر، على حال. {ذلك هو الخسران المبين}؛ الواضح، الذي لا يخفى على أحد أنه لا خسران مثله.
ثم بيَّن وجه خسرانه بقوله: {يدعو} أي: يعبد {مِن دون الله} أي: متجاوزًا عنه تعالى، {ما لا يضرُّه} إذا لم يعبده، {وما لا ينفعه} إذا عبده. {ذلك} الدعاء {هو الضلالُ البعيد} أي: التلف البعيد عن الحق.
{يدعو} أي: يعبد {لَمَن ضَرُّهُ} أي: الصنم الجامد الذي ضرره {أقربُ من نفعه}. وقرأ ابن مسعود: {يدعو من ضره}، بحذف اللام. أو: ذلك هو الضلال البعيد يدعوه هذا المذبذب المنقلب على وجهه. قال ابن جزي: وهنا إشكال: وهو أنه تعالى وصف الأصنام بأنها لا تضر ولا تنفع، ثم وصفها بأن ضررها أكثر من نفعها، فنفى الضر ثم أثبته؟ والجواب: أن الضر المنفي أولاً يُراد به ما يكون من فعلها، وهي لا تفعل شيئًا، والضر الثاني، الذي أثبته لها، يُراد به ما يكون بسببها من العذاب وغيره. اهـ. {لبئس المولى} أي: الناصر، {ولبئس العَشِيرُ} أي: الصاحب. أو يدعو ويصرخ يوم القيامة، حين يرى استضراره بالأصنام، ولا يرى لها أثر الشفاعة، ويقول لِمَنْ ضره أقرب من نفعه: لبئس المولى هو ولبئس العشير. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ومن الناس من يعبد الله على حرف؛ على طرف من الدين، غير متمكن فيه، فإنه أصابه خير، وهو ما تُسر به النفس من أنواع الجمال، اطمأن به، وإن أصابته فتنة، وهو ما يؤلم النفس وينغص عليها مرادها وشهوتها من أنواع الجلال، انقلب على وجهه. أو: ومن الناس من يعبد الله على طمع في الجزاء الدنيوي أو الأخروي، فإن أصابه خير فرح واطمأن به وإن أصابته فتنة سخط وقنط وانقلب على وجهه. أو: ومن الناس من يعبد الله ويسير إليه على حرف، أي: حالة واحدة، فإن أصابه خير؛ كقوة ونشاط وورود حال؛ اطمأن به وفرح، وإن أصابته فتنة؛ كضعف وكسل وذهاب حال، انقلب على وجهه، ورجع إلى العمومية، أو وقف عن السير، خسر الدنيا والآخرة. خسران الدنيا: ما يفوته من عزّ الله ونصره لأوليائه، وحلاوة برد الرضا والتسليم، ولذيذ مشاهدته. وخسران الآخرة: ما يفوته من درجة المقربين ودوام شهود رب العالمين- فالواجب على العبد أن يكون عبدًا لله في جميع الحالات، لا يختار لنفسه حالاً على حال، ولا يقف مع مقام ولا حال، بل يتبع رياح القضاء، ويدور معها حيث دارت، ويسير إلى الله في الضعف والقوة.
قال بعضهم: سيروا إلى الله عَرْجَى ومكاسير. وفي الحكم: (إلهي؛ قد علمتُ، باختلاف الآثار وتنقلات الأطور أن مرادك مني أن تتعرف إليّ في كل شيء، حتى لا أجهلك في شيء). وقال أيضًا: «لا تطلبن بقاء الواردات، بعد أن بسطت أنوارها، وأودعت أسرارها، فلك في الله غنى عن كل شيء، وليس يغنيك عنه شيء». فكن عبد المحوِّل، ولا تكن عبد الحال، فالحال تَحُولُ وتتغير، والله تعالى لا يحول ولا يزول، فكن عبدًا لله، ولا تكن عبدًا لغيره.
لِكَلِّ شَيء إن فارقْتَهُ عِوَضٌ *** وَلَيْسَ لله إنْ فَارقَْتَ مِنْ عِوَض


يقول الحقّ جلّ جلاله: {إِن الله يُدخلُ الذين آمنوا}، وتمكنوا من الإيمان، وعبدوا الله وحده في جميع الحالات، ولم يعبدوه على حرف، {وعملوا} الأعمال {الصالحات}، {جناتٍ تجري من تحتها} أي: من تحت قصورها {الأنهارُ} الأربعة. وهذا بيان حال المؤمنين العابدين له تعالى في جميع الحالات، وأنَّ الله تفضل عليهم، بما لا غاية وراءه، إثر بيان سوء حال الكفرة، من المجاهرين والمذبذبين، وأنَّ معبودهم لا ينفعهم، بل يضرهم مضرة عظيمة. ثم قال تعالى: {إِن الله يفعل ما يريد} من الأفعال المتقنة، المبنية على الحِكَم البالغة الرائقة، التي من جملتها: إثابة من آمن به، وصدّق رسوله، وعبده على كل حال، وعقابُ من أشرك به، وكذب رسول الله، أو عبده على حرف. وبالله التوفيق.
الإشارة: إن الله يُدخل الذين آمنوا، واطمأنوا به، وعبدوه في جميع الحالات، وقاموا بعمل العبودية في كل الأوقات، جنات المعارف، تجري من تحتها أنهار العلوم والحكم، إن الله يفعل ما يريد؛ فيقرب هذا، ويُبعد هذا، بلا سبب؛ جَلَّ حُكْمُ الأزلِ أن يُضَافَ إلى العِلَلِ. وبالله التوفيق.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8